غزة يُعاد هندستها… وحماس غارقة مع ذاتها

 

 

 

قناعتي التي ترسخت عبر تجربة طويلة من القراءة والبحث والتمعن في تفاصيل الواقع، أن السؤال الحر هو المقاومة الحقيقية ضد الرواية الواحدة وضد التلقين، وهو الذي يفتح الطريق ويزعج السكون ويكسر المسلماّت، ولأن الأسئلة هي التي تُحرّك الوعي، وأن الاجابات المسبقة تُغلق الباب أمام الفهم والاكتشاف ، لذلك دفعتني مشاهد غزة اليوم ومشاريع هندستها، وإعادة تشكيلها، إلى إثارة مجموعة من الأسئلة التي تفرض نفسها بقوة :

من الذي يقرر مصير غزة اليوم؟ ، ومن يحمي الشعب الفلسطيني من سيناريوهات التهجير التي تُطبخ على نار هادئة؟، ومن يجرؤ على الاستمرار في حسابات ضيقة بينما يُسحق الناس تحت الركام؟، أهي معركة وجود لشعب، أم صراع بقاء لفصيل يرى نفسه أعلى من الوطن؟. وهل باتت مشاريع التقسيم وفرض الوقائع الجديدة أمرًا واقعًا يتقدّم يومًا بعد يوم؟، وأين تقف القوى الفلسطينية، التي يُفترض بها أن تكون خطوط الدفاع الأولى، من هذه التحوّلات العاصفة؟. بل هل ما زال بإمكاننا الحديث عن موقف وطني موحّد قادر على كبح الانهيار ومنع تكرار سيناريوهات التهجير بينما يمارس علينا لغة الصمت واللامبالاة؟.

ما يحدث اليوم وفق ما تتداوله الأخبار المتسارعة، ليس مجرد حرب انتهت صفحاتها، بل إعادة تشكيل كاملة لغزة وهندسة لمستقبلها وفق التصورات الأميركية والإسرائيلية. خرائط جديدة تُرسم، ووقائع تُفرض، ومستقبل يُصادر قطعة قطعة. شعب يُقتل، بيوت تُمحى، حياة تُركل خارج التاريخ… وكل ذلك بينما حماس وغيرها من الفصائل ما زالت عالقة في وحل الحسابات الداخلية.

وسط هذا المشهد الثقيل، وفي قلب الإبادة المفتوحة، يبرز غيابٌ فاضح لموقف حماس، فالحركة التي يفترض أنها أكثر إدراكاً لحساسية الحظة الراهنة بأعلى درجات الوعي، ما زالت تتصرف وكأن بقائها مقدّم على وجود شعبٍ كامل، بدل أن يكون معيارها الأول هو حماية الشعب الفلسطيني ومنع تمرير المشاريع الهادفة إلى إعادة تشكيل غزة سياسيًا وأمنيًا. نجدها تلتف على النصائح والمبادرات، وتتجاهل أي تصور يمكن أن يوقف الانهيار. وهو سلوك يثير شكوكًا عميقة: هل تعي حماس حجم الكارثة أم تتعمد تجاهلها؟ هل أصبحت السلطة و النفوذ والمال أثمن لديها من مستقبل الفلسطينيين وقضيتهم؟ ولماذا يبدو موقفها متقاطعًا، بالصمت أو بالرفض أو بالجمود ، مع السيناريوهات التي تُحاك لغزة؟

إن الإصرار على البقاء في العتمة، وغياب المسؤولية الوطنية، وإدارة المشهد بعقلية ثابتة، في وقت تتغير فيه قواعد اللعبة جذرياً، يجعل من موقف حماس لغزًا خطيرًا، يثير الاستغراب والريبة، وربما شريكًا صامتًا في صناعة الكارثة. التحديات لم تعد محصورة في معركة عسكرية؛ بل باتت معركة على مستقبل غزة والوجود الفلسطيني نفسه. وبدلًا من أن تكون عنصرًا مساعدًا في بناء جبهة وطنية تعزّز حضور الشعب الفلسطيني في أي تسوية أو رؤية مستقبلية، فإن التمسك بخطاب البقاء وتقديمه على المصلحة الوطنية يضعها في خانة القوى التي تُسهِم في تمرير التصورات المفروضة على القطاع.

وفي اللحظة التي يفترض أن تتكاتف فيها كل القوى الفلسطينية لصدّ مشاريع التقسيم والاقتلاع، اختارت حماس أن تمضي في اتجاه آخر تمامًا، لم تكتفِ بالغياب، بل تماهت بالصمت أو بالتصلب أو بحسابات البقاء مع السيناريو الأخطر على غزة: سيناريو إعادة الهندسة بالمنطق الذي يريده الاحتلال. وهكذا، وبالرغم من تشبتها بخطاب المقاومة، أصبحت جزءًا من المعادلة التي تُسهِّل على الاحتلال تثبيت رؤيته للقطاع، بل قدمت له هديةً لا تُقدّر بثمن.

النتيجة واضحة وموجعة: فصيل يصرّ على البقاء… مقابل شعب يُدفع نحو الاندثار. إن من يتماهى مع رؤية الاحتلال، أيًّا كانت الذريعة أو التبرير، يصبح جزءًا من المشكلة لا من الحل. ومَن يعميه هوس السلطة عن رؤية الخرائط تُعاد رسمها فوق أنقاض الناس، لا يحق له الادعاء بأنه يحمل راية القضية، أو أنه يحمي المستقبل.

حماس، اليوم، تتحمل مسؤولية مباشرة عن المأزق الكارثي الذي تنزلق إليه غزة. ومن يسهِّل التقسيم اليوم… لن يكون يومًا حاميًا لفلسطين.

 

 

 

Loading...