
لم يكن القرار الأميركي الذي مرّر في مجلس الأمن ليلة الأمس مفاجئاً، رغم تحذيراتنا السابقة حول ذلك، بل تتويجاً لمسار طويل من الضغوط الاصطفافات الإقليمية والدولية. ما جرى هو تكريس وصاية جديدة على الشعب الفلسطيني بغطاء الشرعية الدولية، من دون أن يكون مجلس الأمن نفسه هو المرجعية، بل مجلس السلام برئاسة "ترامب" وفق روحية الخطة التي أُعيد تسويقها عبر ما يسمى بـ“قوة استقرار دولية تنفيذية” او بإدخال تعديلات لا جوهر لها.
القرار بصيغته النهائية لا يفرض وقفاً لإطلاق النار، ولا يلزم إسرائيل بوقف عدوانها أو إنهاء احتلالها، بل يربط أي مسار سياسي بشروط ميدانية تصنعها القوة المحتلة نفسها. وهو يعيد إنتاج معادلة غير متوازنة لا تقوم على نزع سلاح الاحتلال ووقف إرهاب المستوطنين والتوسع الكولنيالي، مع فرض ترتيبات أمنية تُدار من الخارج، بما يشبه إعادة وضع شعبنا الفلسطيني تحت وصاية أميركية –بريطانية – إسرائيلية.
والأخطر أن القرار يفتح الباب أمام مصادرة تدريجية للشرعية الدولية نفسها، إذ يتجاوز فعلياً عشرات القرارات السابقة التي شكلت الأساس القانوني للقضية الوطنية التحررية الفلسطينية، بدءاً من حق تقرير المصير، مروراً بقرارات الانسحاب وعدم جواز الاستيلاء على الأرض بالقوة، وصولاً إلى قرارات حماية المدنيين وغيرها وحتى إلى اي اتفاقيات موقعة سابقا وتتعلق بقطاع غزة اساساً وصولاً الى الاستحواذ على كافة الموارد والمصادر الطبيعية فيها ومن ضمنها الغاز، بل والتحكم في اصدار التشريعات اللازمة وإلغاء غيرها خاصة في شأن الولاية الجغرافية والسياسية لمنظمة التحرير.
ما نراه اليوم هو محاولة لإحلال “شرعية أمر واقع” محل الشرعية الدولية التاريخية، وتحويل مجلس الأمن من جهة ضامنة للحقوق إلى طرفٍ يعيد تعريفها بما ينسجم مع ميزان القوة الأميركي–الإسرائيلي وعنجهيته.
أما الصين وروسيا، فامتناعهما عن التصويت، بعد سحب مشروع قرارهما المشترك الذي تضمن حماية الحقوق الوطنية لشعبنا ولنصوص الشرعية الدولية، عكس حدود القدرة على المواجهة داخل مجلس الأمن، خاصة بعد أن أيدت القرار الامريكي دول عربية وإسلامية إلى جانب السلطة الوطنية الفلسطينية.
نحن أمام لحظة سياسية بالغة الخطورة ، صحيح أن القرار ليس نهاية المطاف ، لكنه يؤسس لتحول عميق في البيئة الدولية ، وقد يضع الساحة الفلسطينية أمام تحديات داخلية صعبة أولها الفصل الجغرافي لمحافظات الوطن الواحد وتنفيذ مفهوم "حل الدولتين" بدون الدولة الفلسطينية ، إضعاف منظمة التحرير وعمودها الفقري حركة "فتح" وعموم الحركة الوطنية التاريخية ، رغم ان كل طرف منهم يحتاج الى الإصلاح والاستنهاض لكن بقرار وطني مستقل قد نادى شعبنا به منذ فترات ، وتدويل إدارة الملف الفلسطيني بما يخدم رؤية واشنطن وتل أبيب ، إلى جانب تحويل الصراع إلى ملف “إدارة أمنية–اقتصادية” بدل كونه قضية تحرر وطني .
ومؤسف أن يأتي هذا التحوّل الدولي في لحظة انكشاف عربي غير مسبوق، حيث تراجعت بعض العواصم عن الحد الأدنى من الالتزام السياسي والأخلاقي تجاه فلسطين، واكتفت بالتماهي مع الإيقاع الأميركي بحثاً عن استقرار وهمي. لكن الأكثر إيلاماً أننا نحن الفلسطينيين أنفسنا نجد اليوم أن انقسامنا وتشرذمنا الداخلي، وما حدث من أخطاء، والإصرار على عدم المراجعة النقدية لمسيرتنا دون منهج ديمقراطي، والسماح للغير بمصادرة قرارنا الوطني المستقل، الذي دفع الشهيد المؤسس ياسر عرفات حياته ثمناً للحفاظ عليه، قد أضعف قدرتنا على مواجهة هذا المسار، وسمح للآخرين بالتصرف باسمنا وتحديد مستقبلنا. هذه الحقيقة يجب الاعتراف بها بشجاعة، لا للإحباط، بل كي لا نستمر في فعل الشيء نفسه ونتوقع نتائج مختلفة.