قرار مجلس الأمن 2803: إرث الانتداب البريطاني لفلسطين يعود بصيغة جديدة!

 

 

 

إن قرار مجلس الأمن رقم 2803 المتعلق بقطاع غزة، والمرتكز بشكل مباشر أو غير مباشر على التصوّر السياسي–الأمني الذي صاغته إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قد أعاد إنتاج منطق تاريخي عرفته المنطقة قبل أكثر من قرن حين وضعت عصبة الأمم فلسطين تحت الانتداب البريطاني. وعلى الرغم من اختلاف السياقات الدولية والقانونية بين تلك المرحلة وما نعيشه اليوم، إلّا أن جوهر الفكرة واحد: قوة عظمى تمنح نفسها صلاحية إدارة شؤون أرض وشعب ليسا طرفاً في التفاوض على مصيرهما، مستخدمةً أدوات القانون الدولي حيناً والتحالفات العسكرية والسياسية حيناً آخر، لتكريس ترتيبات تخدم مصالح دولة ثالثة هي في هذه الحالة إسرائيل. لهذا يبدو وصف القرار بأنه يضع قطاع غزة تحت “انتداب أمريكي” وصفاً أقرب إلى الدقة السياسية والقانونية مما قد يتخيله البعض، خاصة عندما ننظر إلى طبيعة الصلاحيات التي يمنحها القرار للولايات المتحدة، وإلى انسجامه مع الرؤية الاستراتيجية التي لطالما تبنتها واشنطن لصالح تل أبيب.

القراريمنح الولايات المتحدة عمليا دور المشرف الرئيسي على إعادة تشكيل غزة في مرحلة ما بعد الحرب، بما يشمل الأمن، وإعادة الإعمار، وإدارة المعابر، والتنسيق السياسي والإداري مع الأطراف الإقليمية. لكن هذا الدور لا يأتي بوصفه التفويض الدولي المحايد الذي يقف على مسافة واحدة من جميع الأطراف، بل بوصفه امتداداً طبيعياً لتحالف استراتيجي أمريكي–إسرائيلي يعمل منذ عقود على إعادة رسم الخرائط السياسية في المنطقة، واستخدام أدوات القوة الناعمة والخشنة لضمان تفوق إسرائيل العسكري والأمني والديموغرافي. وما يؤكد ذلك أن القرار لم يُبنَ على احتياجات السكان المدنيين ولا على متطلبات العدالة أو القانون الدولي الإنساني، بل على “خطة ترامب” التي تعاملت مع غزة ليس باعتبارها جزءاً من أرضٍ محتلة ذات هوية وطنية، بل باعتبارها مشكلة أمنية يجب إدارتها بهندسة سياسية تضمن أمن إسرائيل وتعيد تشكيل المجتمع الفلسطيني بما يتوافق مع تلك الرؤية.

ومن اللافت أن قرار 2803 لا يحدد إطاراً واضحاً لإنهاء الاحتلال، ولا ينصّ على أي مسار يؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية، أو سيادة الشعب الفلسطيني على أرضه، بل يترك هذه القضايا للمستقبل تحت سقف عملية تفاوضية غير ملزمة وغير محددة زمنياً، وهو ما يشبه إلى حد كبير ما كان يحدث خلال فترة الانتداب البريطاني. فبريطانيا التي كانت تخفي هدفها بتمكين الحركة الصهيونية من إقامة دولة على حساب الفلسطينيين، لكنها صاغت سياسات وقوانين، وقدمت دعماً أمنياً وإدارياً، وفتحت أبواب الهجرة والاستيطان، ووفرت البيئة التي مكّنت المشروع الصهيوني من الترسخ حتى لحظة إعلان قيام إسرائيل وتشريد معظم الفلسطينيين من وطنهم. وهنا يبدو التشابه البنيوي بين الانتداب البريطاني والانتداب الأمريكي الجديد، إذ إن كليهما يتأسس على ثنائية مضلّلة: سلطة خارجية تدّعي الحياد بينما تُمكّن طرفاً واحداً على حساب الآخر، وتستخدم لغة القانون الدولي لتجميل تدخلها فيما تستثمر عملياً في بناء قوة سياسية وعسكرية لمصلحة المشروع الإسرائيلي.

وليس من المبالغة القول إن إدارة غزة وفق هذا القرار سيحوّل القطاع إلى مختبر سياسي أمني تديره واشنطن بالنيابة عن إسرائيل، تماماً كما تحولت فلسطين في زمن الانتداب إلى مختبر استعماري بريطاني جرى فيه اختبار الأدوات العسكرية والقانونية والاقتصادية التي خدمت المشروع الصهيوني. فخطة ترامب التي تعد الأساس المفاهيمي للقرار، قامت على منطق "إدارة الصراع" وليس حله، وعلى اعتبار الفلسطينيين مجتمعاً يمكن تطويعه اقتصادياً وإدارياً عبر قيود أمنية مكثفة، وتحويل احتياجاتهم الإنسانية إلى ورقة ضغط طويلة الأمد. كل ذلك ينسجم مع القرار الجديد الذي يمنح الولايات المتحدة مساحة واسعة للتحكم بالتدفقات المالية، وبمشاريع الإعمار، وبمنظومات الأمن الداخلي، وبالتحركات السكانية، في تكرارٍ يكاد يكون نصياً للسياسات البريطانية التي جعلت الفلسطينيين مرهونين لبنية اقتصادية–أمنية صُممت خصيصاً لإضعافهم وتمكين خصمهم.

ومن ناحية أخرى، يحمل القرار في طياته دلالات سياسية عميقة تتعلق بإعادة تعريف غزة ككيان منفصل عن المشروع الوطني الفلسطيني، وكمنطقة يمكن إدارتها خارج السياق القانوني للاحتلال، رغم أن الواقع القانوني والفعلي يؤكد أن إسرائيل ما زالت تتحكم بالمجال الجوي والبحري والحدود والموارد الحيوية. إن وضع غزة تحت إدارة أمريكية مباشرة، حتى لو تم ذلك تحت غطاء الأمم المتحدة، يعني فعلياً رفع الضغط الدولي عن إسرائيل بوصفها قوة احتلال، ويمنحها فرصة لتثبيت الوقائع الديموغرافية والسياسية التي خلّفتها الحرب، دون أن تتحمل مسؤولية إعادة الإعمار أو توفير الخدمات الأساسية. هذا تماماً ما فعلته بريطانيا حين حكمت فلسطين: فقد جعلت الفلسطينيين يديرون شؤونهم البلدية اليومية بينما احتفظت هي بالسلطة الحقيقية التي صاغت مستقبل الأرض والناس وفق مصالح المشروع الصهيوني.

ويزداد التشابه وضوحاً عندما نلاحظ أن القرار يركز على "إعادة تأهيل" بنى الحكم المحلي في غزة تحت إشراف أمريكي، وعلى وضع شروط أمنية صارمة لأي نشاط سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، في ما يشبه بدقة الإجراءات التي سنتها بريطانيا للحد من قدرة الفلسطينيين على تنظيم أنفسهم سياسياً ومقاومة المشروع الصهيوني. وحتى برامج إعادة الإعمار المقترح تنفيذها في غزة، يُتوقع أن تُدار عبر آلية تمويلية–رقابية تضع واشنطن في موقع من يحدّد ما يمكن بناؤه، وأين، وكيف، ولمن، وهو ما ينسجم مع المنطق القديم لإدارة فلسطين قبل أكثر من قرن، حين كان الانتداب يحدد شكل القرى والمدن والتوسع العمراني بما يتوافق مع مصالح الحركة الصهيونية.

أما على المستوى الإقليمي، فإن هذا الانتداب الأمريكي الجديد سيخلق بيئة من الضغوط السياسية على الدول العربية المجاورة، خصوصاً مصر والأردن، اللتين ستُطلب منهما المشاركة في ترتيبات أمنية وحدودية تخدم الهدف الأمريكي–الإسرائيلي المتمثل في خلق “غزة جديدة” منزوعة المخاطر، ومفصولة سياسياً عن الضفة الغربية، وخاضعة لمنظومة مراقبة متعددة الأطراف تتحكم فيها واشنطن بالدرجة الأولى. هذا النوع من المقاربات يذكّرنا مباشرة بالدور الذي لعبته الدول الاستعمارية الكبرى في الأربعينيات حين أقحمت الأطراف العربية في ترتيبات سياسية وعسكرية كان ظاهرها محايداً بينما باطنها مرتبط بإعادة رسم حدود المنطقة لمصلحة إسرائيل الناشئة آنذاك.

ولا يمكن تجاهل أن وضع غزة تحت إدارة أمريكية سيسمح لواشنطن بفعل ما عجزت إسرائيل عن فعله بشكل مباشر، أي إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني وتحويل السلطة المحلية إلى سلطة خاضعة تدريجياً للمحددات الأمنية الأمريكية. وبذلك تتحول واشنطن إلى اللاعب المركزي في صياغة مستقبل غزة، بينما تتراجع منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية إلى أدوار ثانوية أو رمزية، في تكرارٍ لما فعله الانتداب البريطاني حين حوّل القيادة الوطنية الفلسطينية إلى مجرد طرف تفاوضي محدود الصلاحيات، بينما كان يستمر في تمكين الحركة الصهيونية من بناء مؤسسات دولتها المستقبلية.

القرار2803 أشبه بمحطة تاريخية تُعيد إلى الواجهة سؤالاً ظلّ معلقاً منذ زمن الانتداب البريطاني: من يملك الحق في تقرير مصير الفلسطينيين؟ وإذا كان الفلسطينيون قد دُفعوا قبل مئة عام إلى مواجهة نتائج مشروع دولي صاغ مستقبلهم دون مشاركتهم، فإن السيناريو ذاته يتكرر اليوم لكن بأسماء جديدة ولغة قانونية مختلفة. فالانتداب لم ينتهِ فعلياً، بل تغيّرت أدواته وتبدّل اللاعبون، وبقي الهدف واحداً: إعادة تشكيل فلسطين بما يخدم المشروع الإسرائيلي، سواء عبر القوة المباشرة أو عبر القرارات الدولية التي تمنح شكلاً قانونياً جديداً لهيمنة قديمة. لهذا يمكن القول إن القطاع اليوم يدخل مرحلة انتداب أمريكي، لا تختلف جوهرياً عن الانتداب البريطاني إلا في التقنية والأدوات، بينما يظل جوهرها واحداً: سلطة خارجية تقرر، وقوة استعمارية تجني المكاسب، وشعب يُطلب منه مرة أخرى أن يدفع ثمن ترتيبات لم يكن شريكاً في صياغتها.

 

 

 

 

Loading...