
بعد كل موجة دم تعصف بفلسطين، وبعد كل ليلة ينام فيها الفلسطيني بين الركام، نشعر أن العالم يسمع صرخاتنا ولا يستوعبها، يرى صور أطفالنا ولا يقترب من معناها، يحصي أعداد شهدائنا دون أن يغيّر شيئًا في ضميره. لقد بات واضحاً، أن الاعتماد الحصري على المقاربة المسلحة لم يعد قادراً على تحقيق اختراق حقيقي في بيئة دولية تتزايد حساسيتها تجاه العنف وتتجه نحو نماذج أكثر سلمية في فهم الصراعات.
وفي هذه اللحظة المؤلمة، لحظة ما بعد الإبادة، لم يعد السؤال: كيف نصمد؟ بل: كيف نُسمِع العالم نبضنا بطريقة لا يمكنه تجاهلها؟.
لقد اكتشفنا نحن، وكثير من أحرار العالم، أن الفلسطيني لم يخسر إرادته خلال حرب الإبادة، لكنه خسر جزءًا من قدرته على التأثير على الجمهور العالمي؛ الذي يعيش بعيدًا عن فوهات البنادق، لكنه قريب جدًا من شاشات القصص الإنسانية.
والمقاومة المسلّحة، رغم جذورها التاريخية ووجعها المتراكم، لم تعد قادرًة على اختراق جدار اللامبالاة العالمية، ولم يعد العالم يرى فيها إلا صورًا مربكة تختلط فيها المأساة بالسياسة. لهذا، صار لزامًا علينا، نحن الذين نحمل هذا الوجع، أن نبحث عن نضال مُلهِم، نضال يجعل العالم يقف معنا لا، لأننا ضحايا، بل لأننا أصحاب حق.
لم يعد العالم مكانًا تُحسم فيه القضايا بالسلاح. اليوم تُحسم بالسرديات والروايات الإنسانية، بالصورة، بالحكاية، بالأغنية، بتقرير حقوقي، بصرخة طفل تصل إلى قارة أخرى خلال ثوانٍ. نحن بحاجة لنضال يخاطب الضمير قبل أن يخاطب السياسة. مقاومة تُحرج الاحتلال ولا تُبرّر عنفه، نضال برؤية جديدة لا يشكل استسلامًا، بل ذكاء فلسطينيًا خالصًا، نروي فيه نحن قصتنا؛ لا أن يرويها العالم نيابة عنا، وأن نكتب شهاداتنا، نوثق أسماءنا، نُسمع العالم نبض البيوت المدمرة، وأنين البرد ووجع الشتاء، وأن نقاطع من يصنعون أذيتنا بوعي، لا بانفعال، وأن نحاصر الاحتلال بالقانون، فملف واحد أمام محكمة غربية، اوروبية أمريكية، قد يفتح أستوديوهات الإعلام كلها. ونحن بحاجة إلى اقتصاد يحمينا من الجوع ومن التبعية؛ وإلى الفن لا يمكن إسكات صوته برصاصة؛ فيلم، لوحة، أو أغنية واحدة قادرة على تغيير قلوب لا تغيّرها ألف مظاهرة.
نحتاج عقولاً تخطط، لا مجرد أيدي تقاتل؛ مؤسسات بحثية تكتب التقارير بلغات العالم؛ مبادرات شبابية تصنع محتوى مؤثرًا؛ حركات حقوقية تخلق صداعًا سياسيًا في العواصم المؤثرة؛ فالقوة في العصر الحديث لم تعد في السلاح بل في هندسة الرأي العام. ب
بعد كل هذا الدم، لا يحتاج الفلسطيني إلى مزيد من المآسي ليُثبت حقه في العيش. ما يحتاجه هو أن يروي قصته للعالم بشكل لا يمكن تجاهله، وأن يبني مشروع مقاومة مستمرة، أكثر تأثيرًا وعمقًا. فالحرية اليوم لم تعد مسألة بنادق، بل مسألة وعي، وشهادة، وصوت يخترق حصون الصمت الدولي. إنه زمن المقاومة الملهمة… المقاومة التي تُربك الاحتلال وتُحرّك العالم.
لقد أكدت تجربة عامي الإبادة، أن العالم يحتاج، أن يرى فلسطين الحقيقية؛ فلسطين التي نعرفها نحن: فلسطين الحلم، لا فلسطين الصورة المنقوصة التي تعرضها قناة الجزيرة. لقد رأى العالم دمنا، لكنه لم يرَ حلمنا؛ سمع صراخنا، لكنه لم يسمع موسيقانا؛ رأى أشلاء أطفالنا، لكنه لم يرَ عيونهم حين كانوا أحياء يحلمون.
مثل هذه الرؤية، هي التي تعيد الإنسان الفلسطيني إلى الواجهة، لأننا بشر قبل أن نكون أرقامًا في قوائم الضحايا. نحن لا نبحث عن بديل للمقاومة، بل نبحث عن معنى جديد لها. نبحث عن مقاومة تجعل العالم يقف إلى جانبنا دون خوف، دون تردد، دون شروط. نبحث عن مقاومة تليق بكل من رحلوا… وتمنح الأحياء فرصةً ليعيشوا ويموتوا يومًا وهم أحرار.
هذا هو زمن النضال المُلهِم… النضال الذي يُضيء العالم بدلًا من أن تطفئه مسارات نضالنا المقيدة