
في ٢٩ تشرين الثاني، يوم التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني، يتجدد إدراك الحقيقة الأساسية التي يحاول العالم تجنب تسميتها، وهي أن ما يجري في غزة كما بالضفة الغربية بما فيها القدس ليس حربا عسكرية ولا “جولة قتال”، بل حلقة جديدة من مشروع الإبادة والتفريغ الاستعماري الإحلالي الذي يتعرض له شعبنا منذ أكثر من سبعين عاما. في هذا اليوم الذي وُلد من رحم قرار التقسيم عام ١٩٤٨، يظهر التناقض الأخلاقي الصارخ بين التضامن الشعبي العالمي الواسع، وبين تواطؤ القوى الرسمية الغربية الكبرى التي تحاول فرض “نظام دولي” يسمح لإسرائيل بالإفلات من كل محاسبة وعقاب. وبالتالي، يصبح يوم التضامن العالمي ليس مجرد مناسبة رمزية يتم احيائها كل عام رغم حجم التضامن الشعبي في هذا اليوم بكل شوارع العالم، بل منصة لكشف هذا التواطؤ، ونافذة لإعادة تعريف الصراع باعتباره كفاح وطني تحرري لشعب يواجه مشروع اقتلاع وجودي معلن، وإلى ما يتطلبه ذلك من مراجعة جادة للرؤية والأدوات التقليدية وصولاً الى استراتيجية فلسطينية قادرة على مواجهة مشروع التصفية وانجاز التحرر والاستقلال الوطني
فبينما يسارع البعض إلى “شُكر” الولايات المتحدة على ما يُسمّى وقفا لإطلاق النار، يعرف كل من يتابع الميدان أن شيئا لم يتوقف. فإسرائيل لم تبدأ حربا لكي تُنهيها، بل تواصل تنفيذ مشروع سياسي واحد منذ ١٩٤٨ وحتى ما قبل ذلك من خلال العصابات الصهيونية، بتفريغ الأرض من شعبها الأصلاني، وصولاً الى اليوم بتحويل غزة إلى نموذج ردع دموي تُدار به المنطقة مستقبلاً، والضفة الى مكان لن يتبقى به مساحة دون مشروع استيطان عنصري ولا حتى مساحة لدولة كاملة السيادة، مع استمرار الرفض الصهيوني لهذا المبدأ.
هذا ما يكشفه بوضوح واقع ومجريات الاحداث والضم القائم بالأمر الواقع، وما تُعبر عنه تصريحات قادة الاحتلال الإسرائيليين أنفسهم. فما يجري في غزة ليس “رداً” ولا “معركة ضد حماس” كما قلنا منذ البدايات بعيدا عن تحليل واقع يوم السابع من أكتوبر وتعقيداته، بل حرب على الشعب الفلسطيني نفسه وعلى مكانة وجوهر ومعنى والتراث الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية كقائدة النضال التحرري، تُخاض تحت غطاء ديني قومي وعنصري، بالرغم من أن اليهودية ليست بقومية، بل هي حرب تستند إلى تصور يعتبر الفلسطيني تهديداً وجودياً ينبغي إزالته.
فحين يخرج أعضاء كنيست ووزراء الاحتلال ليعلنوا أن “العدو هو الفكرة” وأن “غزة هي الفكرة التي يجب محوها”، فهم لا يتحدثون عن صراع عسكري، بل عن إبادة سياسية وثقافية ووجودية.
وحين يصرح قائد استخبارات سابق لديهم بأن “أكثر من خمسين ألف قتيل ضرورة تاريخية”، فهو لا يقدم توصيفاً للقتل، بل يُعلن هدفا ممنهجا بإعادة إنتاج النكبة على نطاق أوسع.
حتى رئيس دولة الاحتلال الإسرائيلي نفسه الذي يساعد لكنك الإعفاء لنتنياهو، قال بوضوح إن هذه “حرب لإنقاذ الحضارة الغربية”، أي أنها ليست حرباً محلية، بل حملة عقائدية تُلبسنا نحن الفلسطينيين صفة “الخطر على الغرب”، لتبرير كل ما يجري بحق شعبنا.
الحقيقة البسيطة هي، أن ما نشهده اليوم في كل المخيمات والقرى والمدن هو استمرار مباشر لما بدأ بالتاريخ، الفارق الوحيد أن إسرائيل ومع تحول المجتمع فيها نحو اليمين المتطرف حتى ومن فوقية يهودية تجاه الفلسطينيين الذين يعيشون بإسرائيل منذ النكبة محافظين على هويتهم وانتمائهم القومي، لم تعد مضطرة لإخفاء خطابها، فالنكبة التي كانت تُنكَر أصبحت تُبرر علناً، حين يصرح قادتهم بأن، "غزة يجب أن تُمحى، وأن كل غزة ستكون يهودية، وان المشكلة ليست بالأنفاق بل بالسكان."
هذه ليست اقوال عابرة، بل برنامج سياسي مكتوب بصوت مرتفع، نحو تنفيذ "مشروع إسرائيل الكبرى" من خلال ما يجري من جهة أخرى في لبنان وسوريا وتهديدات مستمرة للأردن الشقيق أو بحرب جديدة ضد إيران.
لقد سقطت كل الأقنعة التي ارتدتها الدول الغربية والبعض الإقليمي بقيادة الولايات المتحدة لسبعة عقود. فالحديث عن “القانون الدولي” و“عدم التكرار” كان مجرد واجهة، حيث رأينا ما جرى من دعم عسكري، واعلامي ودبلوماسي، بل والشراكة الكاملة بالجرائم بشكل مباشر أو بتواطئ، وبما يمنع وجود اي أفق سياسي جاد.
وعندما تقول محكمة العدل الدولية إن هناك “خطراً حقيقياً” بإبادة جماعية، وان الاحتلال يجب أن ينتهي، يواصل الغرب الإمداد، فيتحول من “وسيط” إلى شريك في الجريمة، كما ويأتيها بعض من العرب لإنقاذها كما كان يقول المناضل والكاتب الراحل إميل حبيبي عند استفحال أزمة هذه الدولة القائمة بفعل الاستعمار الاستيطاني.
لم ينتهي العدوان لأن الهدف ليس تحقيق “نصر عسكري”، بل تغيير بنية المكان. إسرائيل تريد غزة بلا فلسطينيين، والضفة بلا مقاومة شعبية أو حتى دون سلطة مُكسرة الأجنح، وتريد فلسطين بلا شعب والقضية دون جوهر وطني تحرري بل كمشكلة سكانية.
وما دام هذا الهدف قائما، فلن توقفه هدنة ولا اتفاق إنساني ولا تصريحات ولا القرار الأخير الخادع لمجلس الأمن المُبرمج وفق العقلية الأمريكية الإسرائيلية لتحقيق تلك الاهداف.
فمن يعتبر الطفل الفلسطيني “تهديدا مستقبليا” لن يعترف يوما بحق هذا الشعب في الحياة، فماذا اذن بحق تقرير المصير وتنفيذ القرارات الأممية الصادرة منذ القرار ١٨١ و١٩٤.
ورغم كل هذا الإرهاب الرسمي، لم ينجح المشروع الإسرائيلي في حجب الحقيقة، مئات ملايين الناس حول العالم يعرفون اليوم أن ما يجري في غزة هو إبادة جماعية متعمدة وتطهير عرقي ومحاولة فرض التهجير القسري، وان ما يجري من توسع كولنيالي بالضفة وتهويد بالقدس هو كذلك، وأن الخطاب الذي يحاول تحويل الفلسطيني إلى “نازي” أو “خطر حضاري” ليس سوى محاولة لإخفاء الجرائم خلف تاريخ الحركة الصهيونية نفسها.
لقد سقطت رواية “أكثر الجيوش أخلاقية”، وظهر جيش يرفع شعارات دينية وعرقية يعتبر كل عربي “هدفا مشروعا”. وسقطت كذبة “الحرب على الإرهاب”، وبقي الواقع من قتل جماعي، وتدمير شامل، وتجريف للهوية، ومحاولات سياسية لإنهاء وجود شعب كامل، وسقطت شماعة ضحية الهولوكوست ومعاداة السامية لان هنالك هولوكوست ينفذ ضد شعبنا ببثٍ حي ومباشر، ولأننا نحن وليس هُم الساميون الكنعانيون
الحرب لم تتوقف لأنها لم تبدأ كحرب
إنها فصل جديد من نكبة يريدونها مستمرة، تُخاض بأدوات أكثر تدميراً، وبرعاية غربية أقل خجلاً.
لكنّ ما تغير هو أن العالم، الشعوب لا الحكومات رغم عددا منها، أصبح يرى الحقيقة بوضوح، الأمر الذي ينتج هذا التحول الجاري من ازمة تعيشها دولتهم المارقة. فما سيحدد المستقبل ليس التواطؤ الدولي الرسمي، بل قدرة شعبنا الفلسطيني على الصمود، واصرار قوى العالم الحية التقدمية واليسارية تحديدا منها بشوارع الغرب وبالأساس بالولايات المتحدة وفي بريطانيا على رفض هذا النموذج الوحشي الذي يريد تحويل غزة إلى سابقة يُقاس عليها مستقبل الشعوب الضعيفة. فغزة ليست معركة منفصلة عن العالم، وما يجري بها ليس منفصلا عن المجريات الدولية، فهي اليوم المعركة الأخلاقية لهذا العالم.