توسع الشرعية الدولية.. تعميق السيادة الإسرائيلية

 

 

 

لا شك أنّ المشهد المحيط بفلسطين اليوم يزداد تعقيداً وتركيباً، حيث يتعارض المسار السياسي الدولي مع الحالة الميدانية المشتعلة والمتدهورة؛ فمن جهة، تمثّل الاعترافات المتتالية بالدولة الفلسطينية لحظة نادرة يقرّ فيها العالم بمنطق التاريخ؛ ومن جهة أخرى، نشهد تصعيداً ميدانياً غير مسبوق في الضفة الغربية، واختراقات واسعة لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة، في إصرار إسرائيلي واضح على كتابة تاريخ آخر على الأرض يناقض ما تعترف به الدبلوماسية الدولية.

هذا التناقض يعيد طرح سؤال سبق أن توقفنا عنده: ماذا يعني أن يعترف العالم بدولة تعمل إسرائيل يومياً على تقويض إمكانية قيامها؟ وكيف يمكن لهذا الاعتراف أن يتقاطع مع ضرورة "إعادة الإعمار السياسي" فلسطينياً، باعتباره شرطاً للتعامل مع التحولات الدولية الجديدة عوضا عن الاكتفاء باستقبالها؟

على هذا النحو، تبدو اللحظة الراهنة امتداداً لـ"لحظة الانكشاف" التي تعيشها المنظومة الدولية والذات الفلسطينية معاً، بين نزعة شعبية عالمية تصر على تكريس منطق الحرية والعدالة، ومشروع إسرائيلي يسعى منذ عقود إلى إعادة هندسة الوعي والواقع الفلسطيني لإنتاج ما أسمته الأدبيات الصهيونية بـ"الفلسطيني الجديد".

في قلب هذا السياق، تبرز ثلاث تحولات كبرى: التحوّل الدولي الذي تقوده الاعترافات بالدولة الفلسطينية؛ التأكيد المؤسساتي الذي عبّرت عنه الأمم المتحدة بدعوتها للانسحاب الإسرائيلي؛ والتحوّل الاستراتيجي المتمثل في إعلان نيويورك الناتج عن التحالف الدولي، الذي دعت إليه السعودية وفرنسا، باتجاه عقد مؤتمر دولي للسلام يعيد تعريف آليات الوساطة والضغط ضمن رؤية واضحة لحل الدولتين.

إلا أن المشهد الفلسطيني واقعياً بات يُعبر عن مزيج من الانسداد الميداني والانفتاح السياسي؛ من غطرسة القوة الإسرائيلية، ومن يقظة دولية تدرك أن إدارة الصراع لم تعد ممكنة، وأن الحق الفلسطيني بات عنصراً من عناصر استقرار النظام الدولي؛ وهنا تتجلى المفارقة، الشرعية تتوسع، ولكن في ظل معادلة تزداد فيها إسرائيل قدرة على فرض وقائع جديدة، ما يجعل اللحظة أقرب إلى اختبار لجدية النظام الدولي وقدرته على فرض قواعده، لا مجرد الإعلان عن مبادئه، والسؤال: هل نحن أمام تدويل فعلي يعيد هندسة قواعد اللعبة؟ أم أمام احتواء جديد للانفجار دون معالجة جذوره؟

في هذا الإطار يأتي القرار الأخير للجمعية العامة، المحدّد لسقف زمني للانسحاب الإسرائيلي خلال عام من الأراضي المحتلة، كأحد أبرز مظاهر هذا التحوّل الدولي، الذي لا تكمن دلالته في نص القرار وحسب، بل في الموقع السياسي الذي يمنحه للفلسطينيين داخل بنية النظام الدولي؛ فالشرعية لا تتوسع عبر الاعتراف بالدولة فقط، بل من خلال إعادة إدراج القضية الفلسطينية ضمن آليات الفعل العالمي بعد سنوات من التهميش. ومع ذلك، فإن هذه الشرعية نفسها تنطوي على تناقض بنيوي؛ إذ تأتي استجابة لانسداد ميداني يهدد بانهيار شامل، أكثر مما تأتي كتعبير عن تغيير جوهري في موازين القوى.

غير أن فهم اللحظة الراهنة يظل ناقصاً من دون النظر إلى القرار الأممي في ضوء إعلان نيويورك، الذي شكّل للمرة الأولى منذ عقود محاولة دولية بقيادة السعودية وفرنسا لإعادة تعريف الوساطة في الصراع؛ فالإعلان ليس مجرد بيان، بل منصة ضغط متعددة الأطراف تربط الحل السياسي بمنظومة مصالح دولية متشابكة؛ ومن هنا، يصبح التمسك به ضرورة فلسطينية، ليس فقط من حيث بنوده، بل من حيث قدرته على تثبيت مركزية القضية داخل التحالف الدولي الناشئ ومنع انزلاق الموقف العالمي نحو إدارة الأزمة بدلاً من حلّها.

ومع ذلك، يصطدم هذا المسار الدولي بما يمكن وصفه بارتداد إسرائيلي نحو خطاب التهجير؛ حيث يتجلى بوضوح في الإصرار على فتح معبر رفح باتجاه الخروج فقط، في إعادة إحياء لفكرة "التفريغ الديمغرافي" التي شكّلت أحد أعمدة المشروع الصهيوني؛ فعلى الرغم من الرفض المصري القاطع لهذا المنطق، فإن مجرد عودة هذه اللغة إلى طاولة النقاش يعكس الفجوة بين منطق الشرعية الدولية ومنطق القوة الميدانية؛ فبينما يسعى إعلان نيويورك والقرار الأممي إلى تثبيت إمكانية قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، تعمل إسرائيل على خلق واقع معاكس على الأرض يجعل أي مسار سياسي مجرد صياغة جميلة فوق ركام الحقائق.

على هذا الأساس، يدور المشهد الراهن حول نقطة تقاطع حسّاسة ستحدد ملامح المرحلة المقبلة: هل يتجه النظام الدولي لفرض قواعده فعلاً، أم سيكتفي بإدارة الانهيار تحت مسمى "عملية سياسية"؟ وفي كلتا الحالتين، يبقى المطلوب فلسطينياً التشبث بضرورة إعادة الإعمار السياسي، باعتباره المدخل الوحيد لتحويل الانفتاح الدولي الراهن إلى مكسب فعلي لا إلى لحظة عابرة؛ ذلك أن القضية تمر اليوم بتناقض صارخ بين توسّع الشرعية الدولية من جهة، وتعميق السيادة الإسرائيلية على الأرض من جهة أخرى.

 

 

 

Loading...