قبل أيام قليلة من رحيله المفاجئ والصادم، بعد ظهر أمس، كان الفنان محمد بكري، في العاصمة الأردنية عمّان، يحتفي بإطلاق فيلمه الأحدث "اللي باقي منك"، للمخرجة الأميركية الأردنية من أصل فلسطيني شيرين دعيبس، وبطولته وابنيه الفنانيْن صالح وآدم، وماريا زريق، والمخرجة نفسها، في فعالية نظمتها الهيئة الملكية الأردنية للأفلام لمناسبة ترشحه للقائمة القصيرة المُنافِسة على "أوسكار" أفضل فيلم دولي.
وأعلنت عائلة الفنان محمد بكري، رحيله عن عمر 72 عاماً، بعد ظهر أمس، إثر مضاعفات صحية مفاجئة ما بعد عملية جراحية، حسب ما أكد ابنه الفنان صالح بكري، في حديث مقتضب مع "الأيام"، حيث من المقرر دفنه في قريته ومسقط رأسه "البعنة" في الجليل الأعلى.
وهاتف الرئيس محمود عباس، مساء أمس، ابن عم المخرج والفنان الفلسطيني محمد بكري معزياً بوفاته، مشيداً، خلال الاتصال، بمناقب الفقيد وبمسيرته الثقافية الحافلة بالإنجازات الكبيرة، ومعرباً عن صادق تعازيه ومواساته القلبية لعائلة الفقيد ومُحبيّه.
ونعت وزارة الثقافة، مساء أمس، "الممثل والمخرج الكبير محمد بكري، بعد مسيرة فنية وثقافية وإنسانية حافلة بالعطاء والإبداع"، لافتة إلى أن مسيرته شكلت "علامة فارقة في المشهد الثقافي والفني الفلسطيني والعربي"، وأن صوته الإبداعي كان "حاضراً بقوة في المسرح والسينما، وأن فنّه لم يكن منفصلاً عن موقفه الوطني والإنساني، حيث كرس إبداعه للدفاع عن الحقيقة والسردية الفلسطينية، متحملاً ملاحقة وتحريضاً وعنصرية من الاحتلال، على خلفية مواقفه الجريئة وأعماله الملتزمة.
وشددت الوزارة، في بيانها، على أن بكري، و"رغم كل أشكال القمع والاستهداف، بقي ثابتاً على مواقفه، متمسكاً برسالته الفنية والإنسانية، رافضاً الانكسار أو التراجع، حتى رحيله الذي يشكل خسارة كبيرة للفن الفلسطيني والعربي، وللثقافة الملتزمة بقضايا الحرية والعدالة".
وللبكري، الذي نعاه الكثير من المبدعين الفلسطينيين والعرب والأجانب، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وعديد المؤسسات الثقافية الفلسطينية والعربية والدولية، أثر كبير في مسيرة المسرح الفلسطيني، وحضور لافت في السينما الفلسطينية والعربية والعالمية ممثلاً ومخرجاً على مدار عقود، هو الذي بدأ مشواره من على خشبة المسرح عبر مسرحية "مشهد من الجسر" لآرثر ميلر في سبعينيات القرن الماضي.
وشكلت مونودراما "المتشائل"، الأيقونة الأبرز في مشوار بكري المسرحي الحافل بالأعمال الملهمة، حتى تكاد تكون رديفاً لاسمه على الخشبة، وهي مقتبسة من رواية الأديب إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، وبقي يجسدها في مختلف مسارح العالم لما يزيد على خمسة وثلاثين عاماً.
تميز بكري بشغفه بتحويل روائع الروايات العربية إلى أعمال مسرحية، وغالباً ما كان يقوم بالإعداد والإخراج والتمثيل معاً، كما في "موسم الهجرة إلى الشمال" (1993) عن رواية السوداني الطيب صالح، و"الياطر" (1999) عن رواية السوري حنا مينا.
ورغم شهرته بأعماله المسرحية المنفردة، إلا أنه شارك في عديد المسرحيات، من أبرزها: "الموت والعذراء" رفقة الفنان جورج إبراهيم والفنانة عرين عمري، وهي مسرحية عالمية للكاتب التشيلي أرييل دورفمان.
وفي الأعوام الأخيرة، كان بكري يعمل بدأب على مشروع مسرحي شعري يجسد سيرة وشعر الشاعر الكبير محمود درويش، حيث كان يطمح لتقديمه كعمل يختزل الذاكرة الفلسطينية شعراً كما اختزلها هو تمثيلاً.
وفي السينما بدأ بكري ممثلاً في "حنا ك" (1983)، الفيلم الروائي الشهير لليوناني الفرنسي كوستا غافراس، في حين كانت أولى مشاركاته ممثلاً على المستوى الفلسطيني في فيلم "حكايات الجواهر الثلاث" للمخرج ميشيل خليفي (1994)، و"درب التبّانات" للمخرج علي نصّار في العام نفسه، و"حيفا" للمخرج رشيد مشهراوي (1996)، قبل أن يقدم عديد الروائع في الألفية الثالثة ممثلاً سينمائياً، كما في "موسم الزيتون" لحنا إلياس، و"ياسمين تغني" لنجوى نجار، و"عيد ميلاد ليلى" لرشيد مشهراوي، و"صياد الملح" لابنه زياد بكري، و"واجب" لآن ماري جاسر، و"الغريب" لأمير فخر الدين، وكان آخرها "أما بعد" لمها الحاج العام الماضي، و"اللي باقي منك" لشيرين دعيبس هذا العام.
وعلى المستوى العالمي للبكري عديد المشاركات منذ عقود، في أفلام ومسلسلات من جنسيات مختلفة توزعت على قارات عدّة، كان أبرزها فيلم "برايفت" الإيطالي، وحاز عن دوره فيه على جائزة الفهد الذهبي كأفضل ممثل في مهرجان لوكارنو السينمائي الدولي بسويسرا في العام 2004.
أما بكري المخرج فاشتهر بفيلمه الوثائقي "جِنين جِنين" (2002)، والذي استمرت مطاردة سلطات الاحتلال له بسببه حتى الحكم عليه بغرامة باهظة وسحب جميع نسخ الفيلم العام 2021، ليعود بعد 21 عاماً ويخرج بفيلم "جَنين جِنين"،
وبدأ عروضه العام الماضي، كجزء ثانٍ لفيلمه الشهير، كما أخرج فيلم "من يوم ما رحت" (2005)، وهو فيلم شخصي يرثي فيه صديقه الكاتب إميل حبيبي ويروي سيرة ذاتية وتاريخية، وفيلم "زهرة" (2009)، ويروي قصة خالته التي يحمل الفيلم اسمها، وآخرها فيلم "ليموناضة" (2025).
وحاز بكري عديد الجوائز في مختلف المجالات، كان من أبرزها، جائزة محمود درويش للإبداع (2021)، وهي من أهم التكريمات المعنوية والوطنية التي نالها، ولها مكانة خاصة في قلبه، كما أكد غير مرّة، ومنحتها له مؤسسة محمود درويش "تقديراً لدوره الاستثنائي في إعلاء صوت الثقافة والهوية الفلسطينية في العالم، ولشجاعته في الدفاع عن الرواية الفلسطينية سينمائياً ومسرحياً رغم الملاحقات"، وذلك بعد عام من اختياره شخصية العام الثقافية من قبل وزارة الثقافة الفلسطينية، وقبلهما جائزة فلسطين التقديرية عن فئة للفنون (1999)، تكريماً لمسيرته المسرحية والسينمائية، علاوة على عديد الجوائز والتكريمات السينمائية والمسرحية.